بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}.. يعطي السياق أن المراد بـ{الَّذِينَ آمَنُوا} هم الأبرار الموصوفون في الآيات، وإنما عبر عنهم بـ{الَّذِينَ آمَنُوا}؛ لأن سبب ضحك الكفار منهم، واستهزائهم بهم، إنما هو إيمانهم.. كما أن التعبير عن الكفار بـ{الَّذِينَ أَجْرَمُوا}؛ للدلالة على أنهم بذلك من المجرمين.. فمن عجائب القدر أن هؤلاء مجرمون بنص القرآن، ولكن يضحكون على المؤمنين!..
{وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}.. أي كانوا إذا مروا بالذين آمنوا، يغمز بعضهم بعضاً، ويشيرون بأعينهم استهزاءً بهم.. ومن المعلوم أن الإمام أمير المؤمنين (ع) كان ممن يتغامز به المنافقون، ولذا ورد في بعض الروايات تفسير الآية بذلك، وهو من باب المصداق.. وفي المجمع، في قوله تعالى:{وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}.. قيل: (نزلت في علي بن أبي طالب (ع) وذلك أنه كان في نفر من المسلمين، جاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فسخر منهم المنافقون، وضحكوا وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع، فضحكنا منه.. فنزلت الآية قبل أن يصل علي وأصحابه إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-).. فعلي (ع) كان مقداماً في الحروب، كراراً غير فرّار، لذا كان يلبس الخوذة طويلاً، ولبس الخوذة يأكل من شعر الرأس؛ لهذا سمي "الأنزع"، والأنزع الذي ليس له شعر في مقدمة رأسه.. فهؤلاء رأوا علياً (ع) بهذه الهيئة، فأخذوا يضحكون عليه.. وهذا فخر لعلي (ع) أن يكون شعر رأسه متساقطاً من أجل لبس خوذة الحرب!..
قد يقول قائل: الآية مطلقة، ولها شأن نزول، فهل نقول: هذه نزلت بعلي بن أبي طالب فقط، ولا نتعدى إلى البقية؟.. إن المخصص لا يخصص الوارد!.. أي شأن النزول لا يضيق الدائرة، نعم كان النزول بسبب قصة معينة، كآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، فهذه الآية نزلت في فاسق بعينه، ولكن الاستفادة عامة.. فإذن الآية نزلت بهذه المناسبة، ولكن تنطبق على كل من يستهزئ بالمؤمنين، ويرى أنه هو على الحق، وغيره في ضلال!.. يقول تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
{وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ}.. الفكه: المرح، البطر.. والمعنى: وكانوا إذا انقلبوا، وصاروا إلى أهلهم عن ضحكهم وتغامزهم، انقلبوا ملتذين فرحين بما فعلوا.. ويحدثون بما فعلوا؛ استهزاءً.
{وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ}.. هم مجرمون، وضالون، ويتغامزون، ويتضاحكون على المؤمنين.. وإذا رجعوا إلى أوكارهم؛ يفترون في حديثهم، ويشهدون على المؤمنين بالضلال.
{وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}.. أي وما أرسل هؤلاء الذين أجرموا، حافظين على المؤمنين، يقضون في حقهم بما شاءوا، أو يشهدون عليهم بما هووا، وهذا تهكم بالمستهزئين.. فما لكم والمؤمنين؟.. أنتم مجرمون، ضالون، فلمَ تنسبون الضلال إلى غيركم؟.. أولاً: هل أنتم وكلاء على المؤمنين، وهل لكم سلطة عليهم؟.. وثانياً: إن رب العالمين بيده مقاليد السموات والأرض، لذا يقلب الصورة تماماً!..
{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}.. المراد باليوم: يوم الجزاء، والتعبير عن الذين أجرموا بالكفار، رجوع إلى حقيقة صفتهم.. والمعنى: اليوم الذين آمنوا يضحكون من الكفار، لا الكفار منهم، كما كانوا يفعلون في الدنيا.. فالآن انقلبت الموازين!..
{عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}.. الآن كيف يضحك المؤمنون؟.. في الدنيا كان الكفار عندما يرجعون إلى بيوتهم يضحكون ويتغامزون.. أما في الآخرة: فإن الذين آمنوا على سرر في الحجال، ينظرون إلى جزاء الكفار بأفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا من أنواع الإجرام، ومنها: ضحكهم من المؤمنين، وتغامزهم إذا مروا بهم، وانقلابهم إلى أهلهم فكهين وقولهم: إن هؤلاء لضالون.. هم في الجنة وينظرون إلى الكفار في نار جهنم، يا له من عذاب!.. ذاك يعذب في النار، والمؤمن بين يديه الحور العين، وهو يضحك على ذلك المعذب بنار جهنم.. الدنيا قصيرة، لذا ينبغي ألا يتألم الإنسان كثيراً من ضلال الضالين.. فالأيام تنتهي بسرعة!..
{هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}؟.. الثواب: في الأصل مطلق الجزاء، وإن غلب استعماله في الخير.. والمعنى: هل أثيبوا وجوزوا {مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} في الدنيا، كما ثوّب المؤمنون؟.. نعم، أثيبوا وها هم في النار يتقلبون.. وهذا القول يكون من قبل الله -تعالى- أو تقوله الملائكة للمؤمنين، تنبيهاً لهم على أن الكفار جوزوا على كفرهم واستهزائهم بالمؤمنين، ما استحقوه من أليم العذاب؛ ليزدادوا بذلك سروراً إلى سرورهم.. ويحتمل أن المؤمنين، هم الذين يقولون ذلك لبعضهم البعض؛ سروراً بما ينزل بالكفار.