"ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ".
بسم الله الرحمن الرحيم
"لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ"
نتناول سورتي الفيل وقريش معاً، لأنهما مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً، ارتباط البرهان بالنتيجة، حتى أن المصلّي كما روي عن أهل البيت عليهم السلام، يستطيع في صلاته أن يقرأهما معاً بعد سورة الفاتحة، فكأنهما سورة واحدة، ولأن سور القرآن مترابطة مع بعضها البعض في الترتيب ولكل واحدة علاقة بالتي قبلها والتي بعدها، فقد جاءت سورة قريش بعد الفيل، والترابط بينهما نراه أوضح من أي سورة أخرى .
رعاية السماء
من الحقائق الثابتة والشائعة هي قصة أصحاب الفيل وما جرى عليهم من العذاب الإعجازي، فقد انتشرت هذه الحادثة بين كافّة الناس آنذاك في الجزيرة العربية حتى أنهم أرّخوا بها أحداثهم وسُمي ذلك العام بعام الفيل، ولم ينكرها أحد حتى من لم يرها رأي العين، فـ "ألم تر" رؤية معرفية لا بصرية، لأن الرسول (ص) كان قد ولد في ذلك العام ولم ير الحادثة رأي العين، بل رآها مسلّمة بين الناس، "كيف فعل ربك بأصحاب الفيل"، الذين جاءوا لهدم بيت الله الحرام، هذه هي المسلّمة التي شاهدها الناس، أن الله تعالى هو الذي فعل بهم ما فعل، وليس الناس، "ألم يجعل كيدهم في تضليل" فإن الله عز وجل هو الذي منعهم من هدم البيت الحرام ، ولبيان أن ذلك الفعل ليس من أفعال البشر إنما جاء من السماء كعذاب قوم لوط ، فإنه تعالى الذي صدّهم "وأرسل عليهم طيراً أبابيل * ترميهم بحجارة من سجّيل"، عذاباً إلهياً من السماء وبمخلوقات ضعيفة، وبحجارة من طين كالذي يمشون عليه، وكما خلقهم الله من طين . فهنا تتجلّى ثلاث حقائق:
1/ أن أسلوب الردع كان أسلوباً إلهياً قد أنزله ربنا عز وجل على قوم لوط من قبل، في قوله تعالى: "وجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجّيل".
2/ أن المادة التي رماهم بها الله جلّ جلاله هي مادة الخلق الأساسية وهي الطين، قال تعالى: "هو الذي خلقكم من طين" (الأنعام /2) ، فـ "حجارة من سجّيل"، أي من طين كما في سورة الذاريات "لنرسل عليهم حجارة من طين" وهي ذاتها التي عبّر عنها بالسجيل في موضع آخر .
3/ "فجعلهم كعصف مأكول" ، فقد كانت عاقبتهم الفناء من جهة، وجعلهم في صورة متميزة، لترسخ في الذهن تلك العاقبة ولا ينساها الناس من جهة اخرى.
ففي هذه الحادثة هناك انسجام وتطابق فيما بينها وبين العقاب الذي ينزله الله عز وجل على الأقوام الذين كذّبوا الأنبياء وصدّوا عن سبيله، ومن هنا نستفيد العمق الذي أرادت سورة الفيل أن توصله للرسول (ص) ومن خلاله لكافة البشر إلى يوم القيامة في كلمة "ألم" في بدء السورة ، فإن هذه السورة كأنها حديث شعيب لقومه مدين في جانب من جوانبه ، بعد أن رأوا كيف فعل الله بقوم نوح وهود وصالح ، حيث قال الله تعالى على لسانه : "و يا قوم لا يجرمنّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد" .
موطن الرسالة
إن الله تعالى قد حفظ بعذابه الذي أنزله على أصحاب الفيل بيته الحرام وهو المكان المقدّس ومحور عبادة الله ، وهنالك سبب آخر وهو "لإيلاف قريش" وهم الذين يستوطنون مكة المشرّفة، فبدفع أصحاب الفيل الذين جاءوا بكيدهم لهدم الكعبة قد حفظ لقريش ما كان الله تعالى قد أعطاهم إياه ووفقهم له، وهو الإيلاف والإئتلاف الذي يعني الإيناس، لكن ما هو ذلك الإيناس ؟
يجيب الحق عز وجل: "إيِلافهم رحلة الشتاء والصيف"، وفي هذه الألفة التي تلطّف الله تعالى بها على قريش وحفظها لهم لها سمتان وجانبان :
1/ الجانب المادّي المتمثّل في الرحلة التجارية التي كانت قريش قد اعتادت عليها، بذهابها لليمن في فصل الشتاء، وللشام في فصل الصيف، فيأخذون أحسن ما في اليمن وأحسن ما في الشام ليبيعوه في موسم الحج وزيارة البيت الحرام، ليدر عليهم بالمال، وبذلك يتحقق الرفاه المادّي .
2/ الجانب النفسي، الذي نستفيده من وصف الرحلة بـ "رحلة الشتاء والصيف"، فهناك جانب نفسي في تلك الرحلة من خلال اختيار موسم الشتاء للذهاب إلى المناطق الدافئة وفي الصيف للمناطق الفاترة .
ففي هذه الآية إنباء عن أسباب الألطاف الإلهية من خلال التذكير بالواقع المعاش على نحو الإجمال ، إذن "فليعبدوا ربّ هذا البيت"، وهي الغاية من الخلق يقول تعالى: "وما خلقنا الإنس والجن إلا ليعبدون"، وللوصول إلى إقناع المخلوقين بالعبادة ذكّرهم ونسب البيت إليه تعالى، فلازالت الذاكرة غير خالية من قصة أصحاب الفيل وما جرى عليهم بسبب تعدّيهم على البيت الحرام .
الأمن الحضاري
من أهم الشروط التي ينبغي أن تتوافر في الحضارة التي تطمح إلى تقدّم الإنسان، لابد أن تجيب على سؤالين مهمين، يمثلان عوامل الاستقرار الإنساني والأساس الأولي لانطلاقة الإنسان هما :
1/ هل حققت الأمن الغذائي للإنسان ؟
2/ هل حققت الأمن النفسي إليه ؟
وهذان الجانبان هما اللذان أحرجا كل حضارة غير إلهية تدّعي أن بيدها خلاص العالم، والقدرة على إخراجه من مشاكله. فهل حققت ذينك المهمتين أم لا ؟ وها نحن نجد الحضارة الغربية التي تدّعي ذلك عاجزة على الإجابة عليهما ، بل تؤشر المعطيات على النقيض من ذلك، فقد ساهمت في تباعد العوالم عن بعضها ليزداد الفقير فقراً ، ويزداد الغني غناً ، وذلك من خلال النهج الرأسمالي الفاشل وما يفرزه اليوم من سياسات لمنظمات اقتصادية دولية مهيمنة مثل (البنك الدولي) و(صندوق النقد الدولي)، والنتيجة يشاهدها العالم بأمّ عينيه من انهيار اقتصاديات دول عديدة في اوربا وازدياد عدد الجياع والذين يموتون بسبب سوء التغذية ، وكذا في الجانب النفسي، فرغم ادعاءات الأمم المتحدة بأنها تحفظ أمن العالم وتنقذه من الحروب ، إلا أن الحروب تطحن الشعوب وهي على مرءاً ومسمع، فلا تتدخل إلا حينما تتجتمع مصالح الكبار!
إن الناس تعبد الله عز وجل لأنه فهو "الذي أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف" ، أي حقق الأمن الغذائي ، وضمن لكل مخلوق رزقه وغذاءه، وكذلك حقق الأمن النفسي وضمن لكل من يخاف الله عدم الخوف، يقول الحديث الشريف: (من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء).
وأما ما نراه من عدم التوازن وعدم الأمن فبما كسبت أيدي الناس، ولو اتبعوا الله ورسوله لرزقهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، يقول الإمام الصادق (ع): (إن الناس ما افتقروا وما احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلا بذنوب الأغنياء، و حقيق على الله تعالى أن يمنع رحمته ممن منع حق الله في ماله)